الخميس، 12 مارس 2015

المفردات:

المفردات
يعدّ علم المفردات من العلوم الهامة في اللغة العربية بل هو عمودها الفقري، إذ يضمن لها الاستمرارية والتجدد والتطور، فإذا كان علم النحو يقعّد للغة وينظّر لها، فإن علم المفردات يطعّمها بالمفردات عن طريق الاشتقاق والتوليد...وتكمن أهمية هذا العلم في معرفة مفردات اللغة العربية المستعملة في مجازاتها، ومتشابهاتها، ومترادفاتها، ووجوهها، ونظائرها، ومشتركاتها، ومعرباتها، وكذلك معرفة غرائب ألفاظها. وقد يأخذ هذا العلم صفة اللزوم في تعلّمه ليعرف المسلمون مفردات القرآن، وخاصة غرائبها والعصية على الفهم منها، فقد وردت في هذا الشأن توصيات وأحاديث عن النبي صلى الله علية وسلم، كقوله: (اعربوا القرآن والتمسوا غرائبه‏.)
مفهـوم علـم المفـردات:
لعله من المفيد قبل الحديث عن نشأة علم المفردات التطرق إلى مفهومه، وينبغي الاعتراف بعدم وجود تعريف جامع مانع لعلم المفردات؛ إذ إن مباحث هذا العلم متّسعة ومشتّتة في المصادر، وفروعه مذكورة ومعروفة، ولكن الأصل بقي دون تعريف، رغم أن بعض العلماء، مثل الراغب الأصفهاني، سعوا إلى تعريفه بكل جدية ، وإليه يعود الفضل في وضع اصطلاح (علم المفردات) وجعْلِه فرعا من (علوم القرآن اللفظية‏)، وعَنْونَ كتابَه القيّم بـ: "معجم مفردات ألفاظ القرآن‏" وهو ـ كما يتضح من عنوانه ـ يختص بشرح المفردات المستعملة في القرآن الكريم، يقول: "إن أول علم من العلوم القرآنية التي يجب تعلمها هو العلوم اللفظية، ومن العلوم اللفظية تحقيق الألفاظ المفردة، فتحصيل معاني مفردات ألفاظ القرآن في كونه من أوائل المعاون لمن يريد أن يدرك معانيه، كتحصيل اللبن في كونه من أول المعاون في بناء ما يريد أن يبنيه. وليس ذلك نافعا في علم القرآن فقط، بل هو نافع في كل علم من علوم الشرع، فألفاظ القرآن هي لبّ كلام العرب و زبدتُه، وواسطته و كرائمه، وعليها اعتماد الفقهاء والحكماء في أحكامهم وحكمهم، وإليها مفزع حذاق الشعراء والبلغاء في نظمهم ونثرهم.
الواضح أنه استعمل مصطلح علم المفردات، لكنه لم يضع تعريفا محددا له، ومع ذلك يمكن القول إنه كان بصدد وضع تعريف مباشر لهذا العلم، وذِكرُه لطائفة من العبارات إشارة إلى محاولته وضع التعريف المطلوب. و بناء عليه فإنه يرى أن علم المفردات هو "الحصول على معاني مفردات ألفاظ القرآن‏ ويكون بذلك قد أخرج مسألة (عوارض مفردات ألفاظ القرآن‏ الكريم) التي تشمل:(القراءة والاشتقاق وغيرهما) من ميدان هذا العلم. و لكنه بعد ذلك يعود للقول بأن البحث في عوارض الألفاظ المفردة، مثل مناسبات الألفاظ والاستعارات والمشتقات وغيرها تعدّ من الأمور المرتبطة بعلم المفردات. أما فيما يخص قوانين المفردات وقواعدها فيحيل القارئ إلى كتاب آخر من تأليفه يخص ذلك. وبما أن البحث في «مناسبات الألفاظ المفردة‏» هو بحث في العوارض، لذلك فعلم المفردات عند الراغب علم واسع يشمل معاني الألفاظ المفردة وعوارضها وكيفية استعمالها في القرآن ومناسباتها، وهذا ما يبتكر فروعا للمعارف القرآنية، ومع ذلك فإن كتابه عن معاني مفردات القرآن لم يشمل جميع فروع علم المفردات.
واستنادا إلى أقوال وتصانيف علماء اللغة في العلوم القرآنية اللفظية ، يمكن القول: إن علم المفردات هو العلم الذي يتناول المفردة العربية من حيث‏ جذرها واشتقاقها اللغوي، والدلالة على المعنى المطلوب، ومناسبتها وطريقة كتابتها وتلفظها واستعمالاتها الحقيقية والمجازية.
أما جلال الدين البلقيني، في كتابه "مواقع العلوم من مواقع النجوم‏" ، فيظهر أنه لم يبلور صورة واضحة عن علم المفردات، حيث صنّف مجموع العلوم القرآنية إلى ستة أمور أصلية، وكل أمر ينقسم إلى عدة فروع، وهو يخصص الأمرين الرابع والسادس لتعريف الألفاظ في العلوم القرآنية، ويعني علم المفردات، يقول: الأمر الرابع: اللفظ وهو سبعة أنواع: الغريب، المعرب، المجاز، المشترك، المترادف، الاستعارة، والتشبيه.. الأمر السادس: المعاني المتعلقة بالألفاظ، وهي خمسة أنواع: الفصل، الوصل، الإيجاز، الإطناب والقصر. ومن الأنواع ما لا يدخل تحت الحصر: الأسماء، الكنى، الألقاب والمبهمات.
جلال الدين السيوطي في كتابه "الإتقان في علوم القرآن‏" يسوّي بين غريب القرآن وعلم المفردات مع أن غريب القرآن فرع من علم المفردات. و في موضع آخر يستعمل مصطلح المفردات نفسه، ولكنه يقصد به مفهوما غريبا لا علاقة له بعلم المفردات. و تحت عنوان "النوع السابع والثلاثون في مفردات القرآن‏" يقوم بإحصاء مجموعة من الآيات الواردة من باب التفصيل، أو أن العلماء أطلقوا عليها ذات الوصف، مثل: أحكم الآيات، أعدل الآيات، أعظم الآيات، أرجى الآيات وأمثالها.

نشأة علم المفردات:
ظهر علم المفردات تحت إلحاح الظروف الثقافية والحاجات العلمية والدينية، وبالرجوع إلى المصادر القديمة في علوم القرآن، كتفسير الطبري وابن كثير والجلالين وغيرهم، نلاحظ أن: "بعض أصحاب النبي ومسلمي صدر الإسلام الأول كانوا ـ من باب الورع والتقوى ـ يتجنبون الاشتغال بتفسير القرآن الكريم، و من بينهم أبو بكر و عمر بن الخطاب و بعض التابعين مثل سعيد بن المسيب.‏
وبغض النظر عن صحة هذه المعلومات أو خطئها، فإن المصادر التاريخية تؤكد أن الإمام على بن أبى طالب (كرم الله وجهه) كان ـ بأمر من النبي صلى الله وعليه وسلم نفسه و حتى بإملائه ـ يكتب تأويل كل آية وتفسيرها، وهناك روايات كثيرة تؤيد هذا الرأي، وفيما يلي بعضها:
ـ في مقام المحاجة قال الإمام علي بن أبي طالب ـ كرم الله وجهه ـ مخاطبا طلحة: "يا طلحة! إن كل آية أنزلها الله تبارك وتعالى على محمد صلى الله عليه وسلم عندي بإملاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وخط يدي. و تأويل كل آية انزلها الله على محمد (ص) وكل حرام وحلال، أو حدّ أو حكم أو شي‏ء تحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة، مكتوب بإملاء رسول الله وخط يدي، حتى أرش الخدش."
ـ في حديث‏ حول حديث علي بن أبي طالب ـ كرم الله وجهه ـ مع أحد الزنادقة بعد انتقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جوار ربه، جاء: "وأتى بالكتاب على الملإ مشتملا على التأويل والتنزيل، والمحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، لم يسقط حرف ألف ولا لام فلم يقبلوا منه.
ومثل هذه الروايات كثيرة في مصادر أهل السنة، فقد أورد أحد الباحثين أن بعض كبار الصحابة تعلموا تفسير القرآن الكريم من عظماء الإسلام، أمثال علي بن أبي طالب ـ كرم الله وجهه ـ و عبد الله بن عباس (ض)و عبد الله بن مسعود و أبيّ بن كعب (رضي الله عنهما)، كما كانوا يجيبون عن الأسئلة التي كانت تطرح عليهم حول تفسير القرآن الكريم، استنادا إلى ما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم أو ما كانوا يدركونه بأنفسهم. وهؤلاء هم المؤسسون الأوائل لعلم التفسير.
ويعد الإمام علي ـ كرم الله وجهه ـ من رواد علم المفردات، وبالاستناد إلى أقواله فإنه كان ميالا إلى تفسير الآيات و شرح المفردات؛ ففي كلامه المجموع في نهج البلاغة وحده تم إحصاء مئة وثلاثين موضعا يستشهد فيها بآيات من القرآن، في بعضها شروح بديعة لبعض المفردات،من ذلك مثلا شرحه للفظة «الفتنة‏» ، إذ يقول:" لا يقولن أحدكم اللهم إني أعوذ بك من الفتنة، لأنه ليس أحد إلا وهو مشتمل على الفتنة، ولكن من استعاذ فليستعذ من مُضلات الفتن، فإن الله سبحانه يقول: « واعلموا أنما أموالكم و أولادكم فتنة‏» ومعنى ذلك أنه يختبرهم بالأموال و الأولاد ليتبين الساخط لرزقه والراضي بقسمه، وإن كان الله سبحانه أعلم بهم من أنفسهم ولكن لتظهر الأفعال التي بها يستحق الثواب والعقاب.
ومن هذا المنطلق يمكن أن نقرر باطمئنان أن الإمام علي ـ كرم الله وجهه ـ قد أرسى قواعد مدرسة علم المفردات وتتلمذ فيها كثير من مريديه وأتباعه أمثال عبد الله بن عباس الذي يبدو أنه كان أوفر تلامذته حظا في استيعاب كلامه؛ إذ أسس مدرسة خاصة بالتفسير، مستعينا بالشعر وغيره، فكان من مؤسسي علم

مفردات القرآن الكريم:
ويعتبر كثير من العلماء أن ابن عباس أول من عمل بجد في سبيل القيام بتفسير ألفاظ القرآن الكريم وشرحها لغويا، وقد يصح أن نقول: إنه أول من قام بالبحث في علم المفردات بين المسلمين‏، إذ وضع بضعة كتب في التفسير، فضلا عن كتابه الشهير في علم المفردات موسوم بـ: (غريب القرآن‏) الذي صححه وهذبه تلامذته و عطاء بن أبي رباح (ت 114 هـ)، بالإضافة إلى كتابه: (مسائل نافع بن أزرق‏)، و يضم إجابات ابن عباس عن الأسئلة التفسيرية واللغوية لأحد قادة خوارج ذلك العصر( نافع بن ازرق) وفيه نحو مائتي كلمة صعبة من كلمات القرآن الكريم. ويقول السيوطي بأن تلك الأسئلة طرحها نافع وصاحبه (نجدة بن عويمر) على ابن عباس من باب المناظرة العلمية في أحد أركان الكعبة، وقد أجاب ابن عباس عنها جميعا إجابات صحيحة ، مستندا فيها إلى الشعر الجاهلي وأقوال العرب القدامى.وقد سأل نافع ـ مثلا ـ عن معنى كلمة (جدّ) في الآية ﴿ وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدًّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَدًا﴾ فأجاب ابن عباس بإنشاد بيت لامية بن أبي الصلت الذي قال فيه :
لك الحمد والنعماء و الملك ربنا
فلا شي‏ء أعلى منك جدا وأمجدا
الكتاب الآخر لابن عباس في علم المفردات عنوانه: (اللغات في القرآن)، وفيه بحث في ألفاظ القرآن بلهجات قبائل قريش، هذيل، كنانة، خثعم، الخزرج، جرهم، قيس عيلان واللغات الحبشية والبربرية، واليمنية..
الخاتمــة:
إن علم المفردات أساس كل لغة حية،هو الذي يضمن لها الدوام والاستمرارية؛ ذلك أن الكائن البشري مرتبط باللغة ويتميز بها، وارتقاؤه مرهون بارتقائها، والحزن على انقراض لغة ما لا يقلّ عن الحزن على انقراض الجنس البشري، واللغة هي محور منظومة الثقافة، والسلاح الذي نخوض به صراع الحضارات والأداة الأساس للحفاظ على الهوية والخصوصية الثقافية.

هناك تعليق واحد: